خيـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــمة أولاد دراج * العلـــــمية
خيـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــمة أولاد دراج * العلـــــمية
خيـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــمة أولاد دراج * العلـــــمية
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

خيـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــمة أولاد دراج * العلـــــمية

المعرفة للجميع
 
الرئيسيةالبوابةأحدث الصورالتسجيلدخول

 

 أصــول الشعرية العربية ﴿نظرية حازم القرطاجني في تأصيل الخطاب الشعري﴾ تتمة 2 دراســـــة

اذهب الى الأسفل 
كاتب الموضوعرسالة
غيلوس
Admin



عدد المساهمات : 60
نقاط : 147
تاريخ التسجيل : 17/04/2009

أصــول الشعرية العربية ﴿نظرية حازم القرطاجني في تأصيل الخطاب الشعري﴾  تتمة   2                                                                   دراســـــة Empty
مُساهمةموضوع: أصــول الشعرية العربية ﴿نظرية حازم القرطاجني في تأصيل الخطاب الشعري﴾ تتمة 2 دراســـــة   أصــول الشعرية العربية ﴿نظرية حازم القرطاجني في تأصيل الخطاب الشعري﴾  تتمة   2                                                                   دراســـــة Icon_minitimeالإثنين مايو 09, 2011 11:24 am

- الفصل الثالث : التخييل الشعري في العلامة اللسانية

عندما نتحدث عن مميزات الخطاب الشعري يتحتم على القارئ أو السامع أن يطرح علينا مباشرة سؤالا فيما إذا كانت هذه المميزات تستلزم وجود خطاب مواز يتقاطع معه في نقاط محورية تجعله يتداخل معه وتختلط معالم الواحد منهما مع الآخر ما لم يتم حصر هذه المميزات.
ومثل هذه التساؤلات في صميم الموضوع حيث لا بد أن نتصور خطابا مقابلا لخطاب يسمى شعرا (Poème)، وهو الخطاب النثري (Prose) سواء أكان (سجعا أم مرسلا)، ولحازم في هذه المميزات حكم فاصل يجعله حدّا لمتاخمة الخاطبين لبعضهما البعض، ذلك أنه مثله في فن الخطابة ذي القيمة الإقناعية. وتتحدد وظيفة كل فن من خلال ما يقوم عليه حيث تعتمد " الصنعة الخطابية في أقاويلها على تقوية الظن لا على إيقاع اليقين (...) واعتماد الصناعة على تخييل الأشياء التي يعبر عنها بالأقاويل، وبإقامة صورها في الذهن بحسن المحاكاة، وكان التخييل لا ينافي اليقين كما نافاه الظن "
فالخطاب الشعري خطاب تخييلي يقيني لأن تصوير الأشياء كما يجب أن يكون لا تنافي بث اليقين في ذهن المتلقي له، بينما فن الخطابة القائم على الظن يتباعد بدلالته عن اليقين، لأنه نقيض الظن، كما أن الخطاب الشعري لا يعتد به- في نظر حازم – بالنظر إلى صدق نقله صور الواقع كما هو لتحقيق اليقين أو عدم وفائه لنقل هذا الواقع، لأنه عمل تخييلي بالدرجة الأولى، فاعتبر " الرأي الصحيح في أن الشعر مقدماته تكون صادقة وتكون كاذبة، وليس يُعَدّ شعرا من حيث هو صدق، ولا من حيث هو كذب بل من حيث هو كلام مخيل ".
ويشاطره الرأي الدرس اللساني المعاصر المتجسد في رأي جاكبسون عندما ذهب – في حقل الشعريات – إلى أن " معيار الواقع لا يصلح للشعر، أو الحكم على قيمته الفنية، لأن قيمته الفنية تتحدد بفضل إسقاط مبدإ المماثلة من محور الاختيار إلى محور التأليف [...] بإسقاط أدوات شعرية تكرارية " ، وهذا الذي يحدد طبيعة وقيمة العمل الفني في الخطاب الشعري بغض النظر عن قائله الذي ينبغي أن يرفع شعار الكذب، فالشعر " هو في جميع الأحوال كذب، والشاعر الذي لا يقدم على الكذب بدون تردد بدءا من الكلمة الأولى لا قيمة له " ، أي ينبغي ألا نفرض المنطق القائل بالمقدمات الصحيحة في الخطاب الشعري، لأنه لا وجود له في واقع الأمر إلا نادرا.
وعلى الرأي نفسه اتفق البلاغيون العرب الأوائل عندما اعتبروا " أعذب الشعر أكذبه "، غير أن ما ميّز حازم عنهم هو حسن اختيار المصطلح وهو ’’ التخييل ’’، أي إيهام مستقبل الخطاب الشعري بوجود ما ليس موجودا فيما هو موجود في الواقع المحسوس أو المدرك، فيكون)مزيفا عبقريا ولهذا يجب عليه " أن يعرف الوجوه التي يصير بها الأقاويل الكاذبة موهمة أنها صدق " .
1-مكوّنات الخطاب الشعري التخييلي:
ينبني على سلسلة من " التمويهات والاستدراجات ترجع إلى القول، أو إلى المقول له " ، ويشترك الخطابان (الشعري والخطابي) في هذه المكونات الضرورية لكليهما باعتباره الميزة الواضحة، والفاصل الكبير لهما عن أنواع الخطابات العادية الأخرى، وحتى عن اللغة العلمية التي تشترط بنيتها عن منجز الخطاب أن يتجرد من التمويه، ويتنزه عنه وعن التخييل، ويكون كما أشار إلى ذلك النص السابق باعتبار الخطاب ذاته، أو باعتبار مستقبله أي الموجه إليه.
وقد لخص قبل حازم المعلم الأول للبلاغة العربية أبو عمر عثمان الجاحظ عندما أكد على أن درجة التمويهات الشعرية تخضع لعملية التلقي، ودرجتها تتوقف على درجة فهم القارئ للنص الشعري بقوله " ينبغي للمتكلم أن يعرف أقدار المعاني ويوازن بينها وبين أقدار المستمعين، وبين أقدار الحالات فيجعل لكل طبقة من ذلك كلاما، ولكل حالة من ذلك مقاما حتى يقسم أقدار الكلام على أقدار المقامات وأقدار المستمعين على أقدار تلك الحالات . وبلغة الدرس الحديث يتحدد حجم الغموض على حجم قدرة المتلقي، والوضع الخطابي الذي أنجز فيه الخطاب الشعري.
أ-باعتبار الخطاب المنجز: وذلك بأن يوضع موضعا لائقا بنوعه، والحال التي قيل فيها، فيستميل المتقبل بما يناسبه من كلام وذلك " بأطبائه إياه لنفسه، وإحراجه على خصمه، حتى يصير بذلك كلاما مقبولا عند الحكم، وكلام خصم غير مقبول " ، وهذا تناسقا مع طبيعة التخييل، فإن الفارق بين الخطاب الشعري والخطابي كون التمويه الشعري ومقبولية أحكامه تكون بالتخييل والمحاكاة، بينما يكونا بالاحتجاج والإقناع في الخطاب النثري الخطابي، وبهذا نميز بين النوعين.
ب-باعتبار المتقبل: لقد قلنا بأن المنجز للخطاب الشعري مزيف عبقري يوهم ويخيل ويموه ويستدرج نحو الغاية التي يروم بلوغها، ويعتمد على تقنيات خاصة به وحده دون غيره، وعبر عنها حازم بتعبير فلسفي قائم على القياس الآرسطي، حين ينجز الخطاب الشعري المموّه " بطي محل الكذب من القياس عن السامع، أو باغتراره إياه ببناء القياس على مقدمات توهم أنها صادقة لاشتباهها بما يكون صدقا، أو بترتيبه وضع يوهم أنه صحيح لاشتباهه بالصحيح، أو بوجود الأمرين معا في القياس أعني أن يقع فيه الخلل من جهتي المادة والترتيب معا " .
وليس كل كلام مبني على هذه المقدمات القياسية يعد شعرا ما دامت هناك نتيجة مع المقدمات بل يجب أن يتوفر عنصر التخييل معتمدا على المحاكاة " فما كان من الأقاويل القياسية مبنيا على تخييل، وموجودة فيه المحاكاة فهو يعد قولا شعريا [...] فإن كان مبنيا على الإقناع كان أصيلا في الخطابة دخيلا في الشعر سائغا فيه " ، وهذه العملية التمويهية " تحيل لذة النص في رأي بارث إلى شيء تجهله الجمالية كل الجهل وخصوصا الجمالية الأدبية، وهو المتعة (La jouissance): وهي ضرب من الإغماء وإلغاء الفاعل " ، ولهذا بنيت شعريات جاكبسون على عملية التلقي، لأن اهتماماته كانت " مركزة على كيفية قراءة النصوص باعتبارها بداية جديدة للرموز التي صاغت ذلك الكلام " . ولما نقوم بإجراء عمل مواز لتخييل الشعر ومحاكاة الشاعر للموجودات، نجد " في الكلام المخيل صدق وغير صدق " ، فهو إما يكون خطابا شعريا صادقا في نقل الواقع الموجود وهي دعوة الواقعية، أو بتخييل ما ليس موجودا وإيهام المتلقي بوجوده " فيكون شعرا [...] باعتبار ما فيه من المحاكاة والتخييل، لا من جهة ما هو كاذب، كما لم يكن شعرا من جهة ما هو صادق " . وعليه فعملية تلقي الخطاب الشعري، وما يقع من قِبل المرسل في ذهن المتلقي من تخاييل هي المعتبر، لا القيمة الإخبارية للخطاب، أي المعتبر هي القيمة التصويرية عبر تقنيات التمويه، فيكون " التخييل هو المعتبر في صناعته لا كون الأقاويل صادقة أو كاذبة " ، لأن عملية التلقي

في الخطاب الشعري جمالية بالدرجة الأولى وليست إقناعية.
2- مفهوم الخطاب الشعري التخييلي:
تحديد ماهية الشيء إنما يكون بضبط نعوته، وشكله، وهيأته، والحكمة من تشكيل بنيته، والخطاب الشعري من المفاهيم العويصة التي ينبغي ألا يتجاوز عقبتها كل دارس في حقل الشعريات من دون تحديده وفصل تخومه عما يقاربه أو يتقاطع معه من الأفانين اللفظية، وأمام الحركة الزئبقية التي يتحرك بها الخطاب الشعري، ويتشكل في ضوئها بأحجام وأشكال مختلفة وألوان متعددة واختلاف زمن التخاطب ووضعه وبيئته ولحظة إبداعه فضلا عن اختلاف بنيته ودلالته وغايته من شاعر إلى آخر، وإن كانوا أبناء العصر الواحد والبيئة الواحدة، وقد قدّم حازم تعريفا مطولا أسهب فيه، وتوسع في ضبطه، ليستغرق كل مكوناته بالنظر إلى بيئته الشعرية وهو يخط حروف هذا العمل العلمي والنقدي والفلسفي في الآن نفسه، أو ضمن ما نسميه اليوم ’’ الشعريات ’’ بوصفها علما مختصا بفن الخطاب اللفظي، تشكل " جزءا لا يتجزأ من اللسانيات، وهي العلم الشامل الذي يبحث في البنيات اللسانية " .
وقد أدرج – في هذا التعريف – ضمن الخطاب الشعري كل كلام " موزون مقفى من شأنه أن يحبب إلى النفس ما قصد تحبيبه إليها، ويكره إليها من قصد تكريهه، لتحمل بذلك على طلبه أو الهرب منه، بما يتضمن من حسن تخييل له، ومحاكاة مستقلة بنفسها، أو متصورة بحسن هيأة تأليف الكلام، أو قوة صدقه أو قوة شهرته، أو بمجموع ذلك، وكل ذلك يتأكد بما يقترن به من إغراب، فإن الاستغراب والتعجب حركة للنفس إذا اقترنت بحركتها الخيالية قوي انفعالها وتأثرها " . وكلما تجلت هذه الخواص المتعلقة بالخطاب الشعري كلما كان منسجما مع بنيته التي يتصور الشاعر بلوغها، واستساغ المتقبل خطابه بذوق واعٍ أو غير واع.
ولو شرحنا التعريف لألفيناه محيطا بالقيود الفنية أو الجمالية للعمل الشعري في دلالته وبنيته وأسلوبه وطريقته.
أ-التمظهر الدلالي: لقد استعرضنا هذه الجزئية من مفهوم الشعر وتحديد وجهة خطابه، وتتجلى قيمته الدلالية في تشكيل البنية الكلية للخطاب الشعري من خلال عملية الاختيار التي يتحراها الباث لتحقيق الدلالة الملائمة التي توهم المتقبل وجود واقع جميل يحمله على تقبله، أو قبيح فيبعده عنه، وذلك من خلال تكوينها للكلام الشعري المخيل الذي " من شأنه أن يحبب إلى النفس ما قصد تحبيبه إليها، ويكره إليها ما قصد تكريهه، لتحمل بذلك على طلبه أو الهروب منه " ، والأمر هنا لا يتعلق – كما قال تودوروف – " بابتكار نظام بقدر ما يتعلق باختيار إحدى الإمكانيات العديدة المتاحة لنا، معتمدين على أقل الطرق تعسفا "

ب-المظهر اللفظي التركيبي:
المظهر اللفظي والمظهر التركيبي مصطلحان لتودوروف الذي أفاض الحديث بشأن هذا الفرع الهام من فروع اللسانيات . ويتمثلان في الجانب الموسيقي والجانب التركيبي، ويمكن الجمع بينهما في ’’المظهر البنائي’’ لأن " الشعر كلام موزون مقفى " ، فلا وجود للشعر خارج ’’الأبنية الوزنية’’ ، مع وجوب اختيار البنية الوزنية المناسبة للغرض المقصود من وراء نظم بنية الخطاب الشعري، لأن الوقع الموسيقي الذي يتركه بحر معين يختلف عن وقع بنية وزنية مخالفة له، وسيأتي ذكر ذلك بالتفصيل في الباب الثاني، ويدخل الوقع الموسيقي في النظام العام للصوت الشعري، فتظهر الأصوات متزامنة مع النوطات الموسيقية للبنية الوزنية، وإذا استعرضنا مقولة تودوروف في الخطاب السردي فإن " هذا الظهور المتزامن لا يعدو أن يكون جزءا من القانون الدلائلي العام..." .
ولا تقل أهمية البنية الختامية (القافية) عن البنية الوزنية بحيث تدرج في الخطاب الشعري عنصرا ضروريا اصطلح عليه الدرس في حقل الشعريات ’’الوقفة La pause ’’ ، فتساعد مرسل الخطاب الشعري على الوقوف والتنفيس، كما لها جانب موسيقي هام يعطي نوعا من المماثلة التي تستثير النفس وتحركها وتطربها، وتمنح للمتلقي فرصة التأمل في دلالة الوحدة الخطابية الشعرية (البيت)، وهنا يكمن دورها الدلالي.
و المظهر التركيبي أو النظمي بمنزلة الجسد والروح في علاقة مظهره بالبنية الوزنية، فكما لا يمكن تصور روح أو تمثلها ذهنيا إلا وهي مجسمة في جسد ما، فكذلك البنية الوزنية لا يمكن تصورها في الخطاب الشعري إلا إذا مثلها وجسدها الباث عبر أبنية مركبة ومنظمة فيما بينها، لتعطي خطابا قائما بذاته اصطلح عليه في التعريف اسم ’’ كلام ’’ إلى جانبه كونه ’’ موزونا مقفى ’’ فيشمل المفهوم البنيتين الوزنية والنظمية ببعديهما الختامي أي الوقفة المتماثلة.
وليس للبنيتين استقلال عن المظهر الدلالي، أو العمل بعيدا عنه، بل داخل البنية النظمية التركيبية تأتلف الدلالة الشعرية عبر معادلات متغايرة ومتباينة يجمع بينها مصطلح ’’ النظم ’’ الذي أطلقه عليها عبد القاهر الجرجاني في كتابه دلائل الإعجاز وذلك من خلال الصورة التي تنتجها البنيات التركيبية المتنوعة الباعثة على التخييل والمحاكاة البسيطة بحسن " التأليف والهيئة "
جـ-المفاجأة: إن المعادلتين المتناقضتين القائمتين على مبدئي المفاجأة والتشبع مهمتان جدا في الحكم على الخطاب الشعري المنجز بالنجاح أو الفشل، ويتوقف نجاح منتج الخطاب على القدر الممكن تحقيقه من مفاجآت تضع حدا لتشبع نفس المتلقي لأن " الاستغراب والتعجب حركة للنفس إذا اقترنت بحركتها الخيالية قوى انفعالها وتأثرها" .
وتشكل هذه المثيرات (استغراب، تعجب) جملة من العناصر الضاغطة التي يوظفها منجز الخطاب للهيمنة على ذهن المتلقي وعواطفه، وهذا ما يفسر توجه " رواد التنظير والتحليل إلى اعتبار الأسلوب ضغطا مسلطا على المتقبل بحيث لا يلقى الخطاب إلا وقد تهيأ فيه من العناصر الضاغطة ما يزيل عن المتقبل حرية ردود الفعل، فالأسلوب بهذا التقدير هو حكم القيادة في مركب الإبل، لأنه تجسيد لعزيمة المتكلم في أن يكسو السامع ثوب رسالته في محتواها من خلال صياغتها " .
ونحن نعلم أن الأسلوب – أو الطريقة- باصطلاح حازم – جزء لا يتجزأ من الخطوات المنهجية في تحقيق الوظيفة الإبلاغية للخطاب الشعري، والقائمة على مفاجأة القارئ، وتوجيه ردود أفعاله تجاه الخطاب المنجز، ولو حاولنا إعادة صياغة مفهوم الخطاب الشعري عند حازم القرطاجني لقلنا: هو خطاب نوعي لفظي يتميز بتقيده بالبنية الوزنية، والوقفات الختامية المتماثلة، والمجسدة في تركيبات نظمية للدلالة على أشياء عبر المحاكاة والتخييل قصد إثارة إعجاب المتقبل، وحمله على الأخذ بما يراه الشاعر أو يعتقده. أو نقول: الشعر صناعة تقوم على " جودة التأليف وحسن المحاكاة، وموضوعها الألفاظ وما تدل عليه " .
فالشعر في نهاية المطاف كذب جميل، وتزوير مُقنّن، ووهم مخيّل مُحاكٍ للواقع كما هو مصورا إياه في صورته التي يجب أن يكون عليها في نظر الشاعر، ويتجسد ذلك في بنية منسجمة مع بعضها، متناسقة الوحدات بدءا بالصوت وختاما بالخطاب كله، لتنعكس هذه الأبنية ذات الصور الجميلة الموزونة في هيأة مرايا انفعالية تستقطب نفس كل متلقٍ، فينحصر مفهوم الشعر هنا في الوزن والنظم الدالين، والتخييل المزين للخطاب الشعري، ولا نستطيع أن نوجز مفهومه مثل المفهوم الذي قدمه حازم معرفا إياه مرة أخرى بأنه " كلام مخليل موزون، مختص في لسان العرب بزيادة التقفية إلى ذلك " .
وانطلاقا من هذا التعريف، وجزئياته الموجزة للمفهوم المطول السابق يمكن أن نميز بين عدة خطابات محتملة يرد فيها جزء من جزئيات المفهوم وهي:
- خطاب مخيل: وهو الذي يركز على المحاكاة والتصوير للأشياء خارج البنية الوزنية والوقفات (القافية).
- خطاب موزون مقفى: وقد ربطنا الوزن بالقافية لأنهما عنصران موسيقيان متلازمان في الخطاب الشعري العربي الأصيل، ويدرج ضمن هذه الخطابات المنظومات النحوية والفقهية التي استعملها اللغويون والفقهاء والمرتلون لتسهيل عملية الحفظ.
- خطاب موزون مقفى مخيل: وهو الذي يسمى خطابا شعريا (مادة وجوهرا)، أما الصنفان الأوّلان فلا يصنفان ضمن الخطاب الشعري الحقيقي، وإنما ينسبان إليه مجازا، وتسمية لا غير. كما يمكن التمييز عبر هذا النص بين مفهومين له:
1-المفهوم العام: ويستغرق كل نشاط أو فعل كلامي ينتج ويكتمل في إطار تخييلي خاضع لنظام الوزن.
2-المفهوم الخاص: ويضاف إليه عنصر القافية فيصير مفهوما خاصا ينسب إلى الخطاب الشعري العربي، ويتلوّن بكامل خواصه.
3-التخييل والمحاكاة في الخطاب الشعري:
من خلال التعريف السابق للشعر باعتباره ’’ كلاما مخيلا موزونا ’’ يتبين أن التخييل عمود الشعر، وركنه الذي لا يقوم إلى بوجود في أنساق نظمية موزونة، ولا ينبني التخييل إلى بوجود أشياء أو موجودات تجمع بينها المحاكاة، فتتمثل في الذهن على شكل (تخيل ذهني)، وعليه لا يمكن الفصل بين التخييل والمحاكاة، لوجود علاقة تلازم في حضورهما أو غيابهما على سطح الخطاب وعمقه الذي لا تضاف إليه صفة (الشعري) إلا يحضورهما فيه، وتوافرهما من لحظة ميلاد الخطاب إلى أن تكتمل بنيته.
وسنلجأ إلى الفصل بينهما، ودراسة كل عنصر منهما منفردا قصد توضيح وإظهار الوجوه التي يظهر عبرها كل واحد منهما باعتبارات شتى، وجهات متباينة، ولا يعتبر هذا الفصم الذي نحدثه في حضورهما الثنائي المتلازم لتغييب أحدهما عن الآخر مدة تحليل الأجزاء العامة المكونة له، وإنما لإثبات الرابطة الوثيقة التي تجمع بينهما، لنتوصل في النهاية إلى تحديد العلاقة التلازمية القائمة بينهما.
لكن المشكل الذي يواجه هذه الخطوة - والذي سنحاول تخطيه وتأجيله إلى البابين الثاني والثالث – هو المدى أو البعد الذي تتحدد عبره العلاقة بين هذين المكونين والمكونات الأخرى البنيوية، والأسلوبية.
أ-التخييل: هو عملية تلقٍّ جمالي يحدث في نفس المتلقي بفعل ما يحدث للخطاب الشعري فيه، وذلك بأن "تتمثل للسامع من لفظ الشاعر لمخيل أو معانيه أو أسلوبه ونظامه، وتقوم في خياله صورة أو صور ينفعل لتخليها وتصورها، أو تصور شيء آخر بها انفعالا من غير رؤية إلى جهة أو الانبساط أو الانقباض " ، فالتخييل – في نظر حازم – يحصل بفعل تفاعل مكونات نفس وذهن المتلقي، مع مكونات الخطاب وصورته، أو صوره من خلال نموذج تصوري نفسي حاصل في النفس من غير تمعن أو تمحيص، بل هي عملية تلقٍّ تلقائية، وذلك لِولوع " النفس بالتخييل، [...] حتى تركت التصديق للتخييل، فأعطت تخيلها، وألغت تصديقها " .
وبحكم تأثره بابن سينا من خلال كتابه ’’ الشفاء ’’ فقد سايره في تعريف التخييل بأنه " الكلام الذي تذعن له النفس فتنبسط لأمور، وتنقبض عن أمور من غير رؤية وفكر واختيار، وبالجملة تنفعل له انفعالا نفسانيا غير فكري " . ولهذا يرد الدكتور مصطفى ناصف رؤية الوضعيين المادية تجاه الشعر والفلسفة، لأن شعارهما الخير والجمال، ونحن، " نستطيع أن نزعم أن هذا الخير مثلا يمكن أن يحس أو يرى، إنما الخير والجمال انفعالات شخصية وميول وأهواء " .
فالوضعيون أرادوا إقحام خاصية الخطاب العلمي في الخطاب الشعري، ونسوا أن قوام وعماد هذا الأخير هي الصورة المخيلة، والانزياحات الدلالية. غير أن التخييل لا يخلو من إعمال الفكر ولو لحظة وجيزة، لأن الفكر البشري مصفاة يمر عبرها الحسن والقبيح، ولو أن التعامل المهيمن للمتلقي تجاه الخطاب الشعري يكون نفسيا باعتباره عنصرا جماليا، وليس معرفيا، فيبدو لنا الفكر بمعزل عنه بيد أن التجربة الشعرية تثبت عكس ذلك.
ويتم التخييل من طرف الباث المنجز للخطاب الشعري بمراحل هامة تشكل مفهوما عاما، ومبادئ كلية للعمل الإبداعي، وتنقسم إلى (كلية وجزئية).

أ1-التخاييل الكلية: وتتضمن أربعة حالات وهي:
-الحالة الأولى: ضبط الهدف الكلي من خطابه بحيث يتخيل الشاعر في هذا الحال " مقاصد غرضه الكلية التي يريد إيرادها في نظمه أو إيراد أكثرها " .
-الحالة الثانية: بعد عملية الاختيار الذي يراه مناسبا ينبغي أن تليه مرحلة أو حالة تخييلية موالية يضع فيها لتلك المقاصد والأغراض " طريقة وأسلوبا أو أساليب متجانسة أو متخالفة ينحو بالمعاني نحوها ويستمر بها على مها يعها " .
ويجب اختيارالأسلوب لأنه مبدأ محوري في دائرة الخطاب الشعري، ففيه يتحدد ما " يتميز به الكلام الفني عن بقية مستويات الخطاب أولا، وعن سائر أصناف الفنون الإنسانية ثانيا " .
-الحالة الثالثة: يتصور الشاعر في هذه الحالة النسق الدلالي المتعاقب والمنجز داخل الأسلوب المناسب الذي اختاره فتتمثل في ذهنه كيفية " تشكيل تلك المعاني في تلك الأساليب ومن أهم هذه التخيلات موضع التخلص والاستطراد " ، أي البحث عن الفواصل، أو المفاصل الدلالية الملائمة للأسلوب المتخذ ويشبه هذا الجانب الدلالي ما اصطلح عليه ’’ غريماس A.J.Greimas’’ في الخطاب السردي ’’ الاتصال ’’ .
وتتم عملية الاتصال في الخطاب السردي " بين شخصين أو أكثر أو بين شخصية وممتلك ذي قيمة (كأن يسترجع البطل مسوغ زوجته المسلوب )، كما يمكن اعتبار وظيفة (عودة) كشكل من أشكال الاتصال (بين شخصية ومكان) " ، والعلاقة التماثلية بين الحالتين في خطابين مختلفين هي تلك الإيماءات والإيحاءات الدالة على نهاية المعنى أو نهاية القصة.
-الحالة الرابعة: وهي عملية قولبة لفظية لإنجاز الخطاب، وتجسيد الدلالة في مظهرها المادي، ولهذا يتوجه اهتمام المرسل (الشاعر) نحو التنقيب في الحقل اللساني الذي تنمو فيه دلالة الخطاب قصد إيجاد عبارات ملائمة لهذه الدلائل الشعرية، فيعلم " ما يوجد في تلك العبارات من الكلم التي تتوازن وتتماثل مقاطعها ما يصلح أن يبنى الرويّ عليها، وفي هذه الحال أيضا يجب أن يلاحظ ما يحق أن يجعل مبدأ أو مُفتتح الكلام وربما لوحظ في هذه الحال موضع التخلص والاستطراد " .
ب-التخاييل الجزئية: بعد تصور كليات القصيدة تأتي مرحلة جزئياتها حيث يدخل المرسل إلى أعماق عالم النظم الجزئي الذي يشكل بمجموعه المظهر الكلي للخطاب، وهي أربعة حالات كذلك.
-الحالة الأولى: يتجه في بداية العملية الإبداعية في مرحلتها الجزئية التي تمثل " المعاني معنى معنى بحسب غرض الشعر " ، فيضع في مخيلته كل ما ينوي إرساله إلى المتلقي.
وهذا ما جعل عبد القاهر الجرجاني يقرن " بين القدرة على نظم الكلام، والقدرة العقلية للمتكلم، وهو يرى أن علاقة الشاعر بألفاظ اللغة أشبه ما تكون بعلاقة الصانع بمادته الخام، الشعر يبدأ بالمواضعة على الألفاظ أو تحديد دلالتها، ولكنه يعيد تشكيل الألفاظ المتواضع عليها في علاقات جديدة" تليق دلالتها بالغرض المنشود من خطابه الشعري.
-الحالة الثانية: إلى جانب هذه المعاني المكونة في مجملها موضوع الخطاب، والمؤتلفة من تلك الأنظمة الجديدة في ضوء المواضعة السابقة لميلاد الخطاب الشعري، يضيف المرسل بعض المعاني التي تتموقع في مركز موضوع الخطاب، وإنما يعتبرها الشاعر بالنسبة إليه محيطا وسياجا دلاليا، ودعما مفسرا للمعاني المركزية لموضوع الخطاب، فيتخيل في هذه المرحلة " ما يكون زينة للمعنى وتكميلا له، وذلك بتخيل أمور ترجع إلى المعنى من جهة حسن الوضع والاقترانات والنسب الواقعة بين بعض أجزاء المعنى بعض " ، فتعمل هذه المعاني بدورها على هيكلة " التنظيم الداخلي للخطاب " .
-الحالة الثالثة: وهي حالة اختيار العبارات المتناسبة للوزن المناسب قصد التعبير في قالب جميل عن معانيه فيتخيل " عبارة توافق نقل الحركات والسكنات فيها بما يوجب في ذلك الوزن في العدد والترتيب ... " ، وليس من السهل أن يتخيل شاعر العبارة المناسبة للتعبير عن الدلالة المقصودة في بنية وزنية سليمة، بل يمر بمرحلة مخاض عسير لإنجاب خطاب سليم البنية.
-الحالة الرابعة: ملء الفراغ التركيبي والوزني بعبارات ملحقة ومتممة " في الموضع الذي تقصر فيه عبارة المعنى عن الاستيلاء على جملة المقدار المقفى " . وينبغي ألا تكون هذه العبارة ذات قيمة بنائية فقط، بل تضيف من الناحية الدلالية دلالات لها علاقة بالدلالة المركزية للبيت الموزون المقفى.
إن الملاحظة البسيطة حول هذه الحالات، أو مراحل العملية التخييلية تسجل لنا رؤية تنفي لنا الارتجال والتلقائية أو العفوية في عملية إنتاج الخطاب الشعري، وهي رؤية نقدية ساذجة فسرها تودوروف بعبارة مطولة ذهب فيها إلى أن الخطاب الشعري الشفهي يفرض على الشاعر " الاغتراف من معين الصيغ الجاهزة، فوقع مُذّاك تعميم هذه الفرضية على الأدب المكتوب، وأدى هذا التعميم إلى تحديدٍ لِطبيعة المادة ’’ المستحضرة ’’، فالنص الجديد لا يصنع بالاستناد إلى سلسلة من العناصر التي تنتمي إجمالا إلى الأدب بل بالعودة إلى مجموعات نوعية أكثر، مثل هذا الأسلوب، أو تلك السمة المتميزة، أو ذلك النمط من استعمال الكلمات أو الطرائق الشعرية، ونحن مدينون (لميخائيل ريفاتير) بتغيير فرضية (باري) عن هذه اللغة الشعرية، ويجرنا هذا إلى نظرية عامة في القوالب الجاهزة التي يمكن أن تكون أسلوبية أو عرضية أو سردية في آن واحد، والتي تقوم بدور حاسم في بناء معنى خطاب ما " .
وهذا ينسجم مع ما ذهب إليه حازم، ففي ظل غياب الضبط الفعلي للزمن الذي تنجز خلاله التجربة الشعرية المقدمة، فإنه من غير الممكن أن نحكم على هذا التفصيل والتجزئ والتحليل أنه ينفي الارتجال في الشعر، وجعل كل عمل تخييلي وليد النظر والتنقيح، وإن كان لا بد لكل شاعر أن يمر عبر هذه الخطوات بغض النظر عن المسافة أو القطعة الزمنية التي يستغرقها منجزه.
ويتجلى ذلك بوضوح في قوله " وقد يحصل للشاعر بالطبع البارع وكثرة المزاولة ملكة يكون بها انتقى لخاطره في هذه الخيالات أسرع شيء حتى يحسب من سرعة الخاطر أنه لم يشغل فكره بملاحظة هذه الخيالات، وإن كانت لا تتحصل له إلى بملاحظتها ولو مخالسة " .
مقتضيات التخييل باعتبار الرسالة:
كل خطاب شعري يعتبر رسالة، ولا تصل إلى المرسل إليه إلا إذا كان عليها عنوانه المناسب، وعنوان الرسالة المناسب في الخطاب الشعري يحدده حازم بقيود ضرورية لحمل المستقبل على الإقناع بموقف المرسل إليه وهذه القيود هي:
-القيد الأول: ويتعلق بالوضع الخطابي وما يقتضيه من دلالة وتركيب، فيستحضر الشاعر "المعاني المناسبة للغرض الذي فيه القول، كتخييل الأمور السارة في التهاني، والأمور المفجعة في المراثي، فإن مناسبة المعنى للحال التي فيها القول وشدة التباسه بها يعاون التخييل على ما يراد من تأثر النفس لمقتضاه " ، غير أن القارئ كما يقول ميجان الرويلي وسعد البازغي " يتنازل دائما عن دوره وأهميته إما للنص أو لما يبرزه النص كمحتوى أو مضمون سواء كان ذلك العالم الخيالي أو الواقعي أو للمؤلف حتى يستفيد القارئ من عبقريته أو يستمتع بها " ، وقد صار هذا المبدأ ذا قبولية في نظرية الاستقبال (Receptoin theory).
-القيد الثاني: توظيف المفاجآت قصد الإثارة بعنصري الغريب والعجيب، وهذا القيد له علاقة بالمتقبل، إذ بحصول هذين اللونين الجماليين بقوة يحصل " تأثر النفس لمقتضى الكلام " . وقد قامت اليوم نظرية مستقلة بَسَط وحلّل مقولاتها فوكو و ديريدا، وبارث تدعو إلى موت المؤلف لغاية تقبلية محضة.
-القيد الثالث: التناغم والانسجام والترتيب المنطقي بحيث لا " يسلك بالتخييل مسلك السذاجة في الكلام، ولكن يتقاذف بالكلام في ذلك إلى جهات من الوضع الذي تتشافع فيه التركيبات المستحسنة والترتيبات والاقترانات والنسب الواقعة بين المعاني " ، ولقد قدم (جاك ديريدا) فكرة القراماتولوجيا كعلم بديل، ودراسة مهمة لا أساس لها في الواقع، ولهذا ذهب (غريغوري ألمر) إلى القول بأن " ديريدا ... يتلاعب بعاداتنا الفكرية التي تحبذ استمرارية الحس المألوف، فيجهد إدراكنا المفهوماتي بنحو (Syntax) متناقض من شأنه أن يزيح خط المنطق الصوري فيفضي إلى دوامة مفهوماتية قريبة الشبه من لولبية فريزر " ، لكنه وإن كان شبيها بعبثية (جان بول سارتر) في تفكيره الوجودي، فإنه يؤكد على آلية النحو وفعاليته، وبالتالي يسيطر على نقطة التوجيه والتحكم في الأبنية اللفظية مثل بنية الخطاب الشعري لأن فيها نوعا من العبث بالنظام أو المنطق الصوري للأبنية التركيبية.
وخلاصة القول في هذه العملية الذهنية أنها تركز على المرسل باعتبار المهارات الفنية التي يوظفها في خطابه الشعري، كما ترتكز على المرسل إليه فتراعي كل مقتضيات بيئته النفسية والجغرافية لأنه المقصود بموضوع الخطاب، أي بالعملية التخييلية والتزييف الفني عند حازم، وبالتالي فالعملية التخييلية هي عملية تجاذب بين ثلاث بؤر رئيسية، وهي ثلاثية: المخاطِب والمخاطَب وموضوع الخطاب.
ب-المحاكاة: تمثل المحاكاة – بالنسبة لحازم – دور الوسيط الرابط بين الموجودات الموصوفة، وموضوع أو نص الخطاب الشعري، وكلما حسنت محاكاة الشيء بصفاته أو بشيء آخر كان الخطاب أجمل، والتصوير أوضح وألمع بفعل ما يمكن أحداثه في النص فتنعكس مرايا تلك الصور على نفس المتلقي، " وأردأ الشعر ما كان قبيح المحاكاة والهيئة واضح الكذب، خال من الغرابة، وما أجدر ما كان بهذه الصفة ألا يسمى شعرا وإن كان موزونا مقفى، إذ المقصود من الشعر معدوم " .
ويمكن تعريف المحاكاة من خلال ما تقوم به من نقل لصورة الشيء ووصفه في ذاته وبذاته، أو في ذاته بما هو خارج عنها، حيث يأخذ منجز الخطاب الشعري ريشة الرسام، ويبدأ في زخرفة ووشي قصيدته، بألوان من التصوير عبر المحاكاة لذات معينة كأن " يخيل لك في الشيء بأوصافه التي تحاكيه وقسم يخيل لك الشيء في غيره " ، وتنحصر وظيفة الشاعر في " جودة التأليف وحسن المحاكاة وموضوعها والألفاظ وما تدل عليه " .
ب1-المرجع في المحاكاة الشعرية: سينحصر كلامنا حول المرجع في العناصر اللسانية التي توجد في الخطاب الشعري، ولها صلة بالعالم الواقعي، وقد تمكن الدرس اللساني المعاصر وحتى التراثي من دراسة " العناصر المعزولة [...] في التراث اللساني، وفي علاقتها مع الأشياء وفق شعار: كلمات وأشياء " .
وينبغي التركيز على كل شيء في اللغة بدءا من الصوت، وختاما بتكوين " هندسة المبادئ الشكلية التي تميز كل لغة " ، لأن الإجحاف في محاكاة الشيء أي نقل الواقع من وجهة نظر نفسية وكذلك لسانية، فنجد هذا الواقع معرضا للتشويه غالبا " نتيجة غياب الاهتمام الكافي بالمظهر الفونولوجي لأصوات اللغة، أو لأننا أصررنا على العمل بوحدات فونيماتيكية مركبة عوض التموقع في مستوى المكونات الصغرى " .
وتقوم عملية المحاكاة بواسطة المكونات الصغرى والمركبة بحضور إطارين مرجعيين أساسيين لا يمكن أن يتخطاهم الشاعر وهما:
-الإطار المرجعي الأول (المحاكي): ويشغل موقع الركن الأول في المحاكاة ويظهر بشكل مكثف على سطح الخطاب عندما يكون الخطاب معتمدا عليه مباشرة، ويصير هو المحاكى بالنسبة إلى الرسالة الشعرية التي تؤدي دور المرآة بالنسبة للصورة الواقعية، فتحاكي الألفاظ الموجودات الموصوفة وتنقلها من عالم الحس النظري إلى عالم الحس السمعي، فينحرف المرجع عن التجسيد الواقعي إلى عالم التجريد المطلق بينما يكون محاكيا عندما يضاف إلى المحاكاة ركن آخر وهو المحاكى، فإذا كانت في المحاكاة إحالة دلالية على مرجع واحد يجب في محاكاة أجزاء الشيء " أن ترتب في الكلام على حسب ما وجدت عليه في الشيء، لأن المحاكاة في المسموعات تجري من السمع مجرى المحاكاة بالمتلونات من البصر [...] فالنفس تنكر لذلك المحاكاة القولية إذا لم يوال بين أجزاء الصور على مثل ما وقع فيها، كما تنكر المحاكاة المصنوعة باليد إذا كانت كذلك " .
وبالتالي فالوصف يركز على الشيء الذي يعتبر مرجعا للمحاكاة، كما ينبغي أن يعتني بتصنيف العبارات والدوال الواصفة على النحو الذي رتبنا به مكونات المرجع الموصوف. ويوصف الشيء المرجعي باعتبارين أحدهما تجريدي، وآخر حسّي، لأن " الأشياء منها ما يدرك بالحس ومنها ما ليس إدراكه بالحس، والذي يدركه الإنسان بالحس فهو الذي تتخيله نفسه، لأن التخيل تابع للحس ..." .
وبالتالي فأقرب الصور الشعرية ما لها علاقة بالوجود الحسي لسهولة وبساطة عملية التخيل لدى مستقبل الخطاب الشعري. وتسمى العرب المحاكي ’’ المشبه ’’، بينما تسمي المحاكى ’’ المشبه به ’’، وبالتالي إذا وجد المحاكي والمحاكى، أي المرجع الموضوع والمرجع الثاني المفسر بصفات وخصائص المرجع الموضوع، تأخذ عملية المحاكاة منحى استعاريا أو تشبيهيا لما يقتضيه الخطاب " الذي يخيل لك الشيء في غيره " ، وبالتالي يتطلب بناء الصورة الشعرية التخييلية المحاكية.
-الركن الثاني وهو (المحاكى): ينبغي ألا توقع الهيمنة المطلقة للتشبيهات والاستعارات بصاحب الخطاب في الغموض والابتعاد عن الحقيقة الموصوفة، بفعل التكثيفات الاستعارية الناجمة عن تتالي بعضها وراء بعض، ولذلك " لا يستحسن بناء بعض الاستعارات على بعض حتى تبعد عن الحقيقة برتب كثيرة " .
وهنا نضيف ملاحظة أخرى مهمة لتفسير الغموض الناجم عن كثافة الاستعارات المتتالية، وتتمثل في جانب الكثافة التي يشحن بها الخطاب الشعري بواسطة الاستعارة، وهي في حد ذاتها دلالة شعرية مركبة ومعقدة، فيجتمع التعقيد والتركيب مع الكثافة فيحصل ناتج الغموض في بعض الخطابات الشعرية، أما باعتبار الخطاب الشعري فإن المحاكاة للموجودات منها ما يكون مباشرا، ومنها ما يكون بواسطة، ويتجلى ذلك فيما ذهب إليه حازم عندما اعتبر " محاكاة الشيء نفسه هي المحاكاة التي ليست بواسطة، ومحاكاة الشيء بغيره هي المحاكاة التي بواسطة " .
ومع هذا الاختلاف الحاصل بين وصف المرجع الموضوع مباشرة أو وصفه بواسطة صفات مرجع آخر، فإنه لا يعتبر خارجا عن نطاق التخييل في كلتا الحالتين، فيصبح الشعر تصويرا تخييليا أو بعبارة (جان كوهن) يعد " استعارة واسعة " ، وهذا التفسير والتحليل كافٍ لتعليل وتبرير منحى الدراسة المتعلقة بالخطاب الشعري التي استهوتها البنية الاستعارية على حساب الكنائية، ويذهب جاكبسون إلى أنه " ليس من الصدفة في شيء إذا كانت البنيات الكنائية أقل حظا من الدراسة بالمقارنة مع مجال الاستعارة، ولقد سبق لي() منذ أمد بعيد، أن نبهت على أن دراسة المجازات الشعرية قد اتجهت أساسا نحو الاستعارة، وأن الأدب المسمى واقعيا، والذي يرتبط ارتباطا وثيقا بالمبدإ الكنائي يستمر في تحدي التأويل، في حين أن نفس المنهاجية اللسانية التي تستخدمها الشعرية في تحليل الأسلوب الاستعاري للشعر الرومانسي قابلة لأن تطبق كليا على النسيج الكنائي للنثر الواقعي " .
ويعلل في الآن نفسه عنصر المحاكاة سر هيمنة الدراسة الاستعارية للخطاب الشعري باعتباره – كما سبق مع كوهن – استعارة واسعة.


[b]
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://ghilous.hooxs.com
 
أصــول الشعرية العربية ﴿نظرية حازم القرطاجني في تأصيل الخطاب الشعري﴾ تتمة 2 دراســـــة
الرجوع الى أعلى الصفحة 
صفحة 1 من اصل 1
 مواضيع مماثلة
-
» أصــول الشعرية العربية ﴿نظرية حازم القرطاجني في تأصيل الخطاب الشعري﴾ تتمة دراســـــة
» أصــول الشعرية العربية ﴿نظرية حازم القرطاجني في تأصيل الخطاب الشعري﴾ تتمة 3 دراســـــة
» أصــول الشعرية العربية ﴿نظرية حازم القرطاجني في تأصيل الخطاب الشعري﴾ دراســـــة
» الأبعاد النفسية للأساليب الشعرية تتمة
» الدراسات اللسانية العربية من الجذور إلى عصر اللسانيات الحديثة تتمة

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
خيـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــمة أولاد دراج * العلـــــمية  :: لغويات :: لسانيات-
انتقل الى: